فصل: تفسير الآية رقم (6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.من سورة التوبة:

.تفسير الآية رقم (6):

قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6)}.
تعاهد النبي صلّى الله عليه وسلّم مع الكفار من مشركي مكة وغيرهم على ألا يصد عن البيت الحرام أحد من الطرفين، ولا يزعج أحد في الأشهر الحرم. وهذا هو العهد العام الذي كان بينه عليه الصلاة والسلام وبين أهل الشرك من العرب، وكان من وراء ذلك عهود بينه عليه الصلاة والسلام وبين كثير من قبائل العرب إلى آجال مسماة، وقد نقض كثير من المشركين عهودهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ولمكانة الدين الإسلامي من مكارم الأخلاق، وللإشارة إلى أنه ليس الغرض من فرض الجهاد سفك الدماء، وإنما المهم الوصول إلى الإيمان وترك الجحود. أرشد الله المؤمنين بقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ} إلخ. إلى أن من جاء من المشركين الذي نقضوا العهد يطلب الأمان ليسمع كلام الله، ويتدبر، ويطلع على حقيقة الدين، يجب تأمينه وحمايته حتى يصل إلى غايته، ولا يجوز قتله، ولا التعدي عليه. ومتى أراد العودة إلى بلاده يجب تيسير الطريق أمامه ليصل إلى مأمنه، أي مسكنه الذي يأمن فيه. ذلك التسامح الذي أمرتكم به من إجارة المستجير منهم، وإبلاغه مأمنه بسبب أن هؤلاء المشركين قوم لا يعلمون حقيقة الإسلام، ومن جهل شيئا عاداه، أو هم قوم جهلة، ليسوا من أهل العلم، فلابد من إعطائهم الأمان حتى يفهموا الحق، وحينئذ لا تبقى لهم معذرة.
وقد ورد أنه جاء رجل من المشركين إلى علي بن أبي طالب فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء الأجل لسماع كلام الله، أو لحاجة أخرى فهل يقتل؟ فقال علي: لا، إنّ الله تعالى قال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ}.
وهنا أمور:
الأول: أن المذكور في الآية كون المستجير طالبا لسماع القرآن، ويلحق به كونه طالبا لسماع الأدلة على كون الإسلام حقا، وكونه طالبا للجواب عن الشبهات التي عنده، لأنّ كل هؤلاء يطلبون العلم ويسترشدون عن الحق، ومن كان كذلك تجب إجارته.
الثاني: قيل: المراد من قوله: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} سماع جميع القرآن، وقيل: سماع سورة براءة، لأنها مشتملة على كيفية المعاملة مع المشركين، وقيل: سماع كل ما يدل على أن الإسلام حق.
الثالث: نصّ الفقهاء من الحنفية على أن الحربي إذا دخل دار الإسلام مستجيرا لغرض شرعي كسماع كلام الله، أو دخل بأمان لتجارة وجب تأمينه بحيث يكون محروسا في نفسه وماله إلى أن يبلغ داره التي يأمن فيها.
يؤخذ من الآية ما يأتي:
1- جواز تأمين الحربي إذا طلب ذلك من المسلمين ليسمع ما يدل على صحة الإسلام.
2- أنه يجب علينا تعليم كل من التمس منا أن نعلمه شيئا من أمور الدين.
3- أنه يجب على الإمام أن يحفظ الحربي المستجير، وأن يمنع الناس عن أن ينالوه بشيء من الأذى، لأن هذا هو المقصود من الإجارة والتأمين.
4- أنه يجب على الإمام أن يبلغه مأمنه بعد قضاء حاجته، فلا يجوز تمكينه من الإقامة في دار الإسلام إلا بمقدار قضاء حاجته، عملا بإشارة قوله تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} وقد نص الفقهاء من الحنفية على أنه يجب على الإمام أن يأمره بالخروج متى انتهت حاجته، وأن يعلنه بأنه إن أقام بعد الأمر بالخروج سنة في دار الإسلام فلا يمكّن من الرجوع إلى بلاد الحرب، ويصير ذميا، وتوضع عليه الجزية.

.تفسير الآية رقم (7):

قال الله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)}.
شروع في تحقيق حقيقة ما سبق من البراءة وأحكامها المتفرعة عليها، وتبيين الحكمة الداعية إلى ذلك، بأنه إذا ظهروا علينا لا يرقبون فينا إلّا ولا ذمة.
و(كيف) للاستفهام الإنكاري لا بمعنى إنكار الواقع، بل بمعنى إنكار الوقوع.
و(يكون) من الكون التام. و(كيف) محلها النصب على التشبيه بالحال أو الظرف، أو من الكون الناقص، و(عهد) اسمها، وفي خبرها ثلاثة أوجه:
الأول: أنه (كيف) وقدم للاستفهام، و(للمشركين) متعلّق بمحذوف وقع حالا من (عهد) أو متعلق بيكون عند من يجوّز التعلق بالناقص.
والثاني: أن خبر (يكون) هو (للمشركين) و(عند) على هذين ظرف للعهد، أو ليكون، أو صفة للعهد.
والثالث: أن الخبر (عند الله)، و(للمشركين) حينئذ متعلّق بمحذوف حال من (عهد) أو متعلق بيكون كما تقدم، أو بالاستقرار الذي تعلّق به الخبر، ولا يضرّ تقديم معمول الخبر على الاسم لكونه حرف جر. و(كيف) على الوجهين الثاني والثالث نصب على التشبيه بالظرف أو الحال، كما في صورة الكون التام، والمراد بالمشركين الناكثون للعهد، لأنّ البراءة إنما هي في شأنهم.
والعهد: ما يتفق رجلان أو فريقان من الناس على التزامه بينهما لمصلحتهما المشتركة، فإن أكّداه ووثقاه بما يقتضي زيادة العناية بحفظه والوفاء به سمي ميثاقا، وهو مشتق من الوثاق بالفتح، وهو الحبل والقيد. وإن أكّداه باليمين خاصّة سمي يمينا، وقد يسمّى بذلك لوضع كل من المتعاقدين يمينه في يمين الآخر عند عقده.
وفي توجيه الإنكار إلى كيفية ثبوت العهد من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى ثبوته لأنّ كل موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال قطعا. فإذا انتفت جميع أحوال وجوده، فقد انتفى وجوده على الطريق البرهاني: أي على حال. أو في أي حال يوجد لهم عهد معتدّ به {عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ} يستحق أن تراعى حقوقه، ويحافظ عليه إلى إتمام المدة، ولا يتعرض لهم بسببه قتلا ولا أخذا، وتكرير كلمة (عند) للإيذان بعدم الاعتداد به عند كل من الله تعالى ورسوله على حدة.
والمعنى: بأية صفة وأية كيفية يثبت للمشركين عهد من العهود عند الله يقره لهم في كتابه وعند رسوله صلّى الله عليه وسلّم يفي لهم به، وتفون به أيها المؤمنون اتباعا له صلّى الله عليه وسلّم، وحالهم الذي بينتها الآية التالية تأبى ثبوت ذلك لهم {إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ}، في هذا الاستثناء وجهان:
أحدهما: أنه منقطع، أي لكن الذين عاهدتم إلخ.
والثاني: أنه متصل، وفيه حينئذ احتمالان: أحدهما: أنه منصوب على أصل الاستثناء من (المشركين) والثاني أنه مجرور على البدل منهم، لأنّ معنى الاستفهام المتقدم نفي، أي ليس يكون للمشركين عهد إلا الذين لم ينكثوا.
وعلى أنه منقطع فالذين مبتدأ خبره جملة (فما استقاموا)، وهؤلاء المعاهدون المستثنون هنا هم المذكورون سابقا في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً} إلخ [التوبة: 4] وإنما أعيد ذكر استثنائهم لتأكيده بشرطه المتضمن لبيان السبب الموجب للوفاء بالعهد. وهو أن تكون الاستقامة عليه مرعية من كل واحد من الطرفين المتعاقدين إلى نهاية مدته.
وهذا زائد على ما هنالك من وصفهم بأنه لم ينقصوا من شروط العهد شيئا، ولم يظاهروا على المسلمين أحدا، واعلم أن قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} اعتراض بين قوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ وقوله المفسّر له: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً}.
وقوله: {عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} المراد به جميع الحرم كما هي عادة القرآن إلا ما استثني، فالعندية فيه على حذف مضاف، أي عند قرب المسجد الحرام، وكان ذلك العهد يوم الحديبية سنة ست.
{فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} أي فمهما يستقم لكم هؤلاء فاستقيموا لهم. أو فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم، إذ لا يجوز أن يكون الغدر ونقض العهد من قبلكم.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} تعليل لوجوب الامتثال، وتبيين على أنّ مراعاة العهد من باب التقوى، وأن التسوية بين الغادر والوفي منافية لذلك وإن كان المعاهد مشركا.
ومما يستفاد من هذه الآية: أن العهد المعتد به عند الله وعند الرسول هو عهد غير الناكثين، وأن من استقام على عهده نعامله بمقتضاه، وأن مراعاة العهد من تقوى الله التي يرضاها لعباده.

.تفسير الآيات (17- 18):

قال الله تعالى: {ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)}.
لما بدأ الله سبحانه وتعالى سورة التوبة بذكر البراءة من المشركين وبالغ في إيجاب ذلك بتعداد فضائحهم وقبائحهم أراد أن يحكي شبهاتهم التي كانوا يحتجون بها في أنّ هذه البراءة غير جائزة، مع الجواب عنها.
ومما يروى في سبب النزول عن ابن عباس أنه لما أسر العباس يوم بدر عيّره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم، فأغلظ علي له القول، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا، فقال له علي رضي الله عنه: ألكم محاسن؟
فقال: نعم، إنّا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة ونسقي الحاج. فأنزل الله عزّ وجلّ ردا على العباس: {ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ} إلخ والمراد أنها تتضمن الرد على ذلك القول الذي كان يقوله ويفخر به هو وغيره من كبراء المشركين أيضا، لا أنها نزلت عند ما قال ذلك لأجل الرد عليه في أيام بدر، بل نزلت في ضمن السورة بعد الرجوع من غزوة تبوك.
وقوله تعالى: {ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ} إلخ النفي في مثله يسمّى نفي الشأن، وهو أبلغ من نفي الفعل، لأنّه نفي له بالدليل، والعمارة للمسجد كما يؤخذ من نصوص اللغة تطلق على عبادة الله فيه مطلقا، وعلى النسك المخصوص المسمى بالعمرة، وهي خاصّة بالمسجد الحرام، وعلى لزومه والإقامة فيه لخدمته الحسية، وعلى بنيانه وترميمه. وكلّ ذلك مراد هنا، لأنّ اللفظ يدل عليه، والمقام يقتضيه. والمختار عند الحنفية استعمال المشترك في معانيه التي يقتضيها المقام تبعا للشافعي وابن جرير.
وقوله: {مَساجِدَ اللَّهِ} قرئ بالإفراد، والمتبادر منه إرادة المسجد الحرام، لأنّه المفرد العلم الأكمل الأفضل، وإن كان المفرد المضاف يفيد العموم في الأصل.
ومن قرأ بالجمع فإما أن يراد جميع المساجد، فيشمل المسجد الحرام أيضا، الذي هو أشرفها، وهذا آكد، لأنّ طريقه طريق الكناية، كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتب الله كنت أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك.
وإما أن يراد المسجد الحرام، وجمع لأنه قبلة المساجد، أو لأن كل بقعة منه مسجد.
وقوله: {شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} حال من الواو في (يعمروا) وهو قيد للنفي قبله مبين لعلته. والعلة الحقيقية هي نفس الكفر لا الشهادة به، ونكتة تقييده بها بيان أنه كفر صريح معترف به، لا تمكن المكابرة فيه. والشهادة بالكفر: قيل إنها بإظهار آثار الشرك من نصب الأوثان حول البيت والعبادة لها. وقيل: بقولهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. وقيل: بقولهم كفرنا بما جاء به محمد.
والظاهر شمول الشهادة لذلك كله.
والمعنى: ما كان ينبغي ولا يصح للمشركين، ولا من شأنهم الذي يقتضيه شركهم، أو الذي يشرعه، أو يرضاه الله منهم أو يقرهم عليه، أن يعمروا مسجد الله الأعظم وبيته المحرم بأي نوع من أنواع العمارة المتقدمة في حال كونهم كافرين، شاهدين على أنفسهم بالكفر قولا وعملا، لأنّ هذا جمع بين الضدين، فإنّ عمارة مساجد الله الحسية إنما تكون لعمارتها المعنوية، بعبادته فيها وحده، ولا تصح ولا تقع إلا من المؤمن الموحّد له، وذلك ضد الكفر به.
وهاهنا مسألتان:
الأولى: هل يجوز أن يستخدم المسلم الكافر في بناء المساجد، أو لا يجوز، لأنّه من العمارة الحسية الممنوعة، قيل بالثاني، وفيه نظر، لأنّ الممنوع منها إنما هو الولاية عليها، والاستقلال بالقيام بمصالحها، كأن يكون ناظر المسجد وأوقافه كافرا.
وأما استخدام الكافر في عمل لا ولاية فيه، كنحت الحجارة، والبناء والنجارة، فلا يظهر دخوله في المنع، ولا فيما ذكر من نفي الشأن.
والثانية: يؤخذ من تفسير المنار أنه إذا وقع من بعض الحكام والأفراد من غير المسلمين أن من بنى مسجدا للمسلمين أو أوصى بمال لعمارة مسجد لهم لمصلحة له في ذلك، جواز قبولنا مثل هذا المسجد، وهذه الوصية بشرط ألا يكون فيهما ضرر ديني أو سياسي، لأنّه حينئذ يكون كمسجد الضرار.
{أُولئِكَ المشركون حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ} أي بطلت أجور أعمالهم الخيرية: كصدقة، وصلة رحم، وقرى ضيف، وإغاثة ملهوف، وغيرهما مما يفخرون به؛ كعمارة مسجد، وسقاية حاج، فلا ثواب لهم عليها في الآخرة لعدم شرطها، وهو الإيمان، وإن كانوا يجازون عليها في الدنيا بإعطاء الولد والمال والصحة والعافية.
{وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ} لعظم ما ارتكبوه. وهذه الجملة قيل: عطف على جملة {حَبِطَتْ} على أنها خبر آخر لأولئك وقيل: هي مستأنفة كجملة {أُولئِكَ حَبِطَتْ} وفائدتهما تقرير النفي السابق.
الأولى من جهة نفي استتباع الثواب، والثانية: من جهة نفي استدفاع العذاب.
{إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)}.
بعد أن بين عدم استحقاق المشركين لعمارة مساجد الله أثبتها للمسلمين الكاملين، وجعلها مقصورة عليهم بالفعل، وهم الجامعون بين الإيمان بالله على الوجه الحق، والإيمان باليوم الآخر الذي فيه الجزاء، وبين إقامة الصلاة المفروضة بأركانها وآدابها، وتدبر تلاوتها وأذكارها، التي تكسب مقيمها مراقبة الله وحبه والخشوع له والإنابة إليه، وإعطاء زكاة الأموال لمستحقيها، وبين خشية الله دون غيره ممن لا ينفع ولا يضر كالأصنام وسائر ما عبد من دون الله خوفا من ضرره، أو رجاء في نفعه.
فالمراد بالخشية الديني منها دون الغريزي، كخشية أسباب الضرر الحقيقية، فإنّ هذا لا ينافي خشية الله.
قيل: ولم يذكر الإيمان بالرسول صلّى الله عليه وسلّم مع الإيمان بالله، لأنه لما ذكر الصلاة وهي لا تتم إلا بالأذان والإقامة والتشهد، وهذه الأشياء تتضمن الإيمان بالرسول صلّى الله عليه وسلّم كان ذلك كافيا.
{فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} أي فأولئك الجامعون لهذه الأوصاف هم الذين يرجون بحق أو يرجى لهم بحسب سنن الله في أعمال البشر وتأثيرها في إصلاحهم أن يكونوا من جماعة المهتدين إلى ما يحب الله ويرضى من عمارة مساجده حسا ومعنى.
ومعلوم أنّ الرجاء المستفاد من عسى لا يصح أن يكون صادرا من الله، لأنّ حقيقته ظنّ بحصول أمر وقعت أسبابه، واتخذت وسائله من مبتغيه.
ويستنبط من الآيتين أمور:
1- أنّ أعمال البر الصادرة من المشركين لا تجلب لهم ثوابا في الآخرة، ولا تدفع عنهم عذابا.
2- أن كل ما اتصف بالإيمان، وما عطف عليه من الأوصاف المتقدمة فهو الجدير دون غيره بأن يقبل الله منه عمارة مساجده.
3- أخذ بعضهم من قوله تعالى: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} أنه ينبغي لمن بنى مسجدا أن يخلص لله في بنائه بحيث لا يكون الباعث له على بنائه رياء ولا سمعة.
4- يؤخذ من التعبير بعسى في جانب المؤمنين قطع طماعية المشركين في الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها، وافتخروا بها، حيث بيّن الله تعالى أن حصول الاهتداء لمن آمنوا بالله، ولم يخشوا غيره دائر بين لعل وعسى. وإذا كان حال المؤمنين هكذا فلا يليق بالمشرك أن يرجو لنفسه الهداية والفوز بالخير فضلا عن قطعه بذلك.
5- التنويه بفضل عمارة المساجد وقد ورد في عمارة المساجد الحسية والمعنوية أحاديث كثيرة:
ومنها ما رواه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وغيرهم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان، وتلا إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ» الآية.
وهو نص في العمارة المعنوية، كما أنّ الحديث الأول نص في الحسية.